كيف ارتقى المجلس الوطني السوري إلى مصاف رؤساء الملائكة.. وكيف طرد منها؟

من الجميل، بالتأكيد، ان يخدم المرء بلده، ولكن فضل القول الجيد أيضا لا يستخف به. في السياسة، كما في الأدب، وعلى المتراس كما على شاشة كمبيوتر، يمكنه ان يـَلمع ويبرز. ويحصل هؤلاء الذين يقومون بأعمال صالحات، مثل أولئك الذين يكتبونها، على الثناء. والحال ان الذي يكتب التاريخ –حسب ما أراه- لا ينال المجد نفسه الذي يجنيه صانعه. مهمته ليست اقل صعوبة. وبهذا المعنى، فإنه لا يكفي أن يستجيب السرد التاريخي لحجم الأعمال التاريخية، ولكن عليه أن يرتفع أيضا إلى رتبتهم المجيدة، وإلا اتهم القراء كتاباتكم بالابتذال والتبسيط. هذا يتطلب، هنا، حاجة إلى ان يقدَّم -في قصة ممجدة- حدث مهيب، كـ11 فانديميير [1] الثورة السورية المقدسة، أو اليوم الثاني من شهر أكتوبر 2011. تم تشريف هذا اليوم بميلاد ميثاق المبادئ الدستورية، الذي رسم -إن جاز التعبير- معالم سورية الغد.

في المقدمة، يسألني معظم قرائي سؤالين أصبحا مألوفين لدي. أولئك الذين يقرأون بانتظام مقالاتي عن سورية يسألونني لماذا أوظف -عندما أتحدث عن ما يسمى “الثورة” السورية، من ناحية، وعن “التحالف” الذي نشأ بين الإمبريالية الغربية والخلافة الإسلاموية التركية والاستبداد الظلامي العربي، من جهة أخرى- التسميات التي لا يتم تداولها في سوق الإعلام، مثل “الثورة المقدسة” و”التحالف المقدس”.

الجواب على السؤال الأول لا يقتضي بالضرورة الرجوع إلى مخططات ميتافيزيقية، أو معادلات هندسية مجردة. يكفي في هذا السياق دراسة الخطاب السياسي للقادة الأطلسيين العرب حول سوريا منذ بداية الأحداث في مارس 2011، لملاحظة “هالة النور” حول رؤوسهم، وإدراك “القداسة” التي تشع منهم.

فيما يتعلق بالسؤال الثاني، يجب تحديد ما إذا كان الأمر يتعلق حقا بتحالف، أو مجرد ائتلاف، مثل ذلك الذي أنشئ خلال حرب الخليج الثانية (1990 – 1991)، عندما دخلت القوى الإمبريالية الرئيسية ومرؤوسيهم العرب في تحالف عالمي، محدود الزمن والمكان، واضحة جدا مقاصدُه وغاياته: خلع آخر ملوك بابل، نبوخذ نصر [2] صدام حسين، وحرق معبده، وأسر شعبه. انتهى هذا التحالف فور بلوغه أهدافه. غير أن واقع الأمور في السياق السوري يختلف عن الحال المذكورة من قبل، إذ لا يتعلق الأمر بائتلاف مصالح ظرفية، محدودة زمنيا ومكانيا، بل بمزيج من المصالح الهيكلية، المتجذرة زمكانيا، والتي تجمع تحت الرداء المقدس [3] جميع القوى الامبريالية والاستعمارية الرئيسة من جهة، ومرؤوسيها من جهة أخرى، مثل الإسلاموية الخلافوية التركية، الاستبداد الظلامي العربي ومظاهره الإسلاموية الوهابية. وبعبارة أخرى: الروح القدس للتفاعل العالمي.

وهكذا، فإن الديمقراطيةَ الديمقراطية، العالية إلى حد ان تكون فوق الجماهير العربية، تشعر تجاهها بشفقة لا نهائية. ومن حب الديمقراطية الديمقراطية للجماهير العربية أنها أرسلت ابنها الوحيد -الربيع العربي- كي لا يضل جميع أولئك الذين آمنوا بها، ولكن أن يملكوا الحياة الديمقراطية.

زيارة داود أوغلو إلى دمشق ، والرسالة التي وجهها

في الواقع، منذ اليوم الأول من الحرب الإمبريالية ضد سورية، عزمتُ على كتابة تاريخ الثورة السورية المقدسة، على شكل مقالات منفصلة، باختيار الأحداث التي بدت جديرة بالذكر. ولكن، بالنظر إلى شدة الدعاية الإمبريالية ضد سورية، والوقاحة الإعلامية المتجددة، اضطررت إلى الانتظار بضعة أشهر حتى تتحدد المؤامرة، ويفتضح المتآمرون قبل أن أتمكن من جمع بيانات ذات الصلة.

ومع ذلك، في بداية أوت-أغسطس 2011، اتخذت عملية الحرب الإمبريالية على سورية مدى مختلفا، مع زيارة رئيس الدبلوماسية التركية، أحمد داود أوغلو، إلى دمشق، الذي وصل إلى عاصمة الأمويين حاملا رسالة “محددة”، على حد تعبير رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان. بعد شهرين، اجتمع حشد من المعارضين باسطنبول -التي عمـّدت لتصبح مكة كل من يحمل ضغينة ضد الحكومة السورية- لإنشاء واجهة سياسة يختفي خلفها كتاب السيناريو الحقيقيون ومخرجو الثورة السورية المقدسة. وهكذا ولد المجلس الوطني السوري.

سجل هذا الحدث، في رأيي، منعطفا حاسما في الحرب الإمبريالية ضد سورية، لأنه بعد الولادة القيصرية للمجلس الوطني السوري، لم يعد المتآمرون يخفون دورهم في دوامة العنف، ليصبح التدخل العربي الأطلسي في الشؤون الداخلية هذا البلد، مُذذاك، رسميا ومباشرا. هذا الحدث ذو المعنى بالذات هو ما دفعني لتنفيذ مشروعي في صياغة مقاصده: معالجة الحرب الإمبريالية ضد سورية بشكل وجيز ودقيق قدر الإمكان.

في أية محنة ارتقى بالمجلس الوطني السوري إلى مصاف رؤساء الملائكة؟

قبل ذلك، تنبغي الإشارة إلى أن إنشاء المجلس الوطني السوري وإعلان ميثاق “الكرامة والحرية”، كما يحلو لمُسَحاء (جمع مسيح) المجلس أن يسموه، قد عرضا على جميع المعارضين في الخارج، وعلى التنسيقيات المحلية الداخلية، والإخوان المسلمين، والأحزاب الكردية والآشورية، ومجموعة من السياسيين والقبليين. وهكذا كان “ارتقاء المجلس الوطني السوري إلى السماء”، جامعا تحت البرقع نفسه إسلاميين سلفيين وقوميين شوفينيين ومن يسمون شيوعيين، برجوازيين ليبراليين، و-من دون شك- انتهازيين، بوضوح.

بين هذا الحشد، رأينا أولا السلفيين الوهابيين، المشوهين صورةَ الغرب وهياكلـَه الاجتماعية والثقافية، الرافضين الشعبَ كمصدر للسلطة الشرعية، لأن السماء بالنسبة لهم المصدر الوحيد لكل سلطة. ثم رأينا بينهم ليبراليين برجوازيين وبرجوازيين صغارا، مفتونين بتمام الديمقراطية البرجوازية الغربية على يد مؤسساتها السياسية والاجتماعية، معتقدين بأن التجربة الغربية هي الشكل النهائي للجنة الأرضية، ما يجعلهم، بطبيعة الحال، في مواجهة العنصر السابق، الإخوان المسلمين. ثم رأينا فيهم من يسمون “الماركسيين الثوريين” اليائسين والمنتشرين في أنحاء العالم الأربعة، من بقايا الحرب الباردة، نتاج من تقطيع أوصال الاتحاد السوفياتي، إنهم يتمايزون إيديولوجيا وخطابيا في مواجهة الإسلاميين والليبراليين. وشاهدنا أخيرا الوطنيين الشوفينيين العرب والأكراد والآشوريين، وبينهم سمعنا -من جانب- صرخات الشوفينيين العرب الناصريين، شبه الاشتراكيين شبه الإسلاميين، ينادون الأمة العربية، حيث تتطلب تشكيلتها بالضرورة سحق الأقليات العرقية في سورية، وخصوصا الأكراد، ومن بين هؤلاء سمعنا من الجانب الآخر الأكراد القوميين يحتفلون بالنيروز ويهتفون مرحى لكردستان الكبرى، التي تهدد كينونتها، بالتأكيد، وحدة الأمة العربية الكبرى عموما. وبين هؤلاء وأولئك سمعنا أيضا الأقليات الإثنية الآشورية تنادي بآشور المقدسة وإلهها المقدس آشور، السيد الحقيقي لنينوى[4]، حيث تضرب جذورها الأسطورية بعيدا في تاريخ الألفية الثانية قبل الميلاد. وباختصار، إنه خليط غير عادي من التناقضات، حيث إن استحالة الالتقاء على نقطة إيديولوجية واحدة مشتركة لا تخفى على أحد، حتى للعوام (البيليبيين) [5]، المنطوين على حالهم [6] ..

ومع ذلك، فإن هذا المَلغم الخيميائي بالذات، المتمرس في أنابيق مراكز القوى الإمبريالية، الذي رفع خصوم سوريةإلى مستوى أكثر علوا، إلى مرحلة قصوى من مراحل تطوير أفكار وممارسات ثورية، هو من الثورة السورية المقدسة.

بالتأكيد، هؤلاء السادة النبلاء البرجوازيون [7] في المجلس الوطني السوري، يتشاركون قاسمين مشتركين هشين: (1) الإقامة في الغرب، (2) غياب برنامج إصلاح محدد. غير أنهم يجتمعون على هدف واحد: إسقاط الرئيس الأسد بأي ثمن، ومن بعد ذلك الطوفان، وليس مهمّا شيوع الفوضى، وليس مهما تدمير البلد!

وفعلا، فإن هذا الازدياد في قوة المجلس الوطني السوري، وهذه البطولة المغرورة لأعضائها المفتقدة كل تواضع، وهذا الارتقاء إلى مصاف رؤساء الملائكة، وهذا الظفر المؤقت لقوة الإرهاب “العالمية” الغاشمة، المباركة من قبل الإمبراطورية وأتباعها الخدم، جميعها [8] ثمنه فناء كل أوهام ما يسمى “الثورة” السورية وخرافاتها وخيالاتها، وتفكك كل خطابات الإمبريالية “الخيّرة” عن طبيعتها السلمية وكذا شرعيتها الثورية. في المقابل، هذا المخلوق الجديد على طريقة فرانكنشتاين، هذا الـ”سيربيروس” [9] لم يكن ذا جدوى إلا في سياق تزايد العدوان ضد سورية.

ما كان من المجلس الوطني السوري وكيف استحال إلى سيربيروس؟

في هذا الوقت الحرج، بالتحديد، الذي يعرف تطور الحرب الامبريالية على سورية، تحول المجلس الوطني السوري إلى سيربيروس، وقرر ثواره الربيعيون إعلان “ميثاق الحرية والكرامة” على نحو مخيف، مستحضرين روح الثورات الأوروبية الكبيرة في القرن التاسع عشر، وظهور الإسلام في مكة في القرن السابع الميلادي، فاستعاروا منهم أسماءهم وهتافاتهم وشعاراتهم السياسية والاجتماعية، وحتى ملابسهم، ليظهروا على ركح التاريخ الجديد في هذا التمويه المحترم، الجدير بكل “ثوري” يعتقد بروح قوانين مونتسكيو، بالعقد الاجتماعي الذي جاء به روسو، والعدالة الاجتماعية في الإسلام لسيد قطب، بالتأكيد مع هذه اللغة المقتبسة من الثورة الفرنسية الأولى.

برهان غليون، بسمة قدماني، عبد الباسط سيدا، جميع الفرسان الـ190 بالمجلس الوطني السوري، وكذا الأحزاب الكردية القومية، وكتلة من القبائل البدوية وعشائر الصحراء السورية، وأيضا رجال علي بابا الـ44، يقوم جميعهم، في زي الثورة الفرنسية الأولى، مستخدمين أسلوبا مقتبسا من فلاسفة عصر التنوير [10]، بإنجاز المهمة الثورية، أي ميثاق 11 فانديميير، كذلك قدم عبد الباسط سيدا نفسه على انه روبيسبيير، وبسمة قدماني ارتدت ثوب دانتون، ولعب برهان غليون دور كميل ديسمولين.

وعلاوة على ذلك، وبقراءة مبادئ إعلان المجلس الوطني السوري، يصبح من الصعب علينا، على نحو متزايد، ان نتخلص من الفكرة الملحة أن لمؤلفي هذا الميثاق “التاريخي”، كما يسميه السيد غليون، نية بدء التحرير بمعزوفة بيانو على نوتة سي بيمول مينور [11]، بعظمة الحدث نفسه، حيث انبثق الميثاق، الثورة السورية المقدسة.

ومع ذلك، فإن كل ملاحظ عادي، حتى وإن لم يتابع رحلة الثورة السورية المقدسة خطوة بخطوة، في كواليس القوى الإمبريالية، قد حدثته نفسه ان الثورة حادت إلى انهيار غير مسبوق. كان يكفي أن يسمع، في هذا السياق، هتافات الانتصار الخالية من كل حياء، التي هنأ بها هؤلاء السادة في المجلس الوطني السوري، برئاسة برهان غليون، بعضَهم، بالتأثيرات الخارقة لـ 11-فانديميير، اليوم الثاني من أكتوبر-تشرين الأول 2011.

العلمانية، المادية، الإسلاموية.. وما تمخض من ميثاق المجلس الوطني السوري

بالتأكيد، وبالإعلان عن التوحد داخل المجلس الوطني السوري، تكون المعارضة السورية قد خطت خطوة حاسمة نحو التبعية الكاملة للقوى الإمبريالية. يكفي أن المجلس الوطني السوري استقبل، يوم 10 أكتوبر، تأييد زميله الليبي، المجلس الوطني الانتقالي، (CNT)، حتى يتسنى لنا بناء فكرة أولية عن المستقبل المتوقع لسورية. ومساء اليوم نفسه، تلقى المجلس الوطني السوري مباركة من الاتحاد الأوروبي (EU) الذي هرع لتحية “جهود الشعب السوري في تأسيس أرضية موحدة، ودعا المجتمع الدولي إلى القيام بذلك”[12].

بدءا، في هذا العهد الفخيم، يتجلى الإعلان المحتوم عن الحريات المدنية (الحرية الشخصية، وحرية الصحافة، والكلام، والتعبير، وتكوين الجمعيات، والتجمع، والتعليم، والعبادة.. وما إلى ذلك) في زي دستوري موحد جعله معصوما. هذا الميثاق، إذا ما صُيّر مصونا بحذق ليكون مستمدا من التطور التاريخي للأفكار الثورية، فالحال انه -مثل أخيلوس- كان ذا نقطة ضعف، ليس في الكعب، ولكن في الرأس، أو بالأحرى في الرؤوس الثلاثة التي تشتت بها.

1)ـ الخطاب الليبرالي البرجوازي للسيد برهان غليون.

2) ـ الخطاب الإسلاموي لجماعة الإخوان المسلمين.

3) ـ الخطاب الاشتراكي لبعض من بقايا الحرب الباردة.

ثم، نتيجة لهذا الثالوث الخطابي، ينادَى بكل واحدة من تلك الحريات كحق مطلق للمواطن السوري، ولكن مع ذاك التحفظ القاضي بأن لا تتعارض مستقبلا مع الوحي الإلهي، كما تجلى في العقيدة الإسلامية زمن الصحيفة[13]، ثم ان الافتتاح الفخيم لهذا الميثاق بدأ بالإصرار على الأهمية التاريخية لـ”الثورة” السورية، التي تضع سورية -وفقا لواضعي الميثاق- في المستوى نفسه حيث الأمم المتحضرة. وأخيرا، انتهى الميثاق باحتيال بخصوص المَجلى العام العالمي للثورة السورية المقدسة، وفية لأرواح الشهداء الخالدة.

لنأخذ على سبيل المثال، المبدأ الأول للاتفاق:

“تشكل الانتفاضة-الثورة في سورية نقطة تحول جذري في تاريخ المجتمع والدولة السورية. إنها تحمل، مثل كل الثورات “الربيع العربي”، نقلة نوعية، رسالة إنسانية ومجموعة من القيم الشاملة، الممثلة للقواسم المشتركة لتطلعات الشعب السوري والاعتراف بتضحية شهدائه “[14].

في نظرنا، فإن كتّاب المبدأ المذكور أعلاه أعاروا الكثير من الأهمية لإظهار “واقعيتهم” كنتيجة منطقية وطبيعية لحراك النضالات الثورية في سورية، مقتبسين لغة التراث الماركسي، وعلى وجه التحديد المادية التاريخية. ويتجلى هذا في استعارة عبارة “نقلة نوعية” الناجمة، بطبيعة الحال، عن سيرورة طويلة من تراكم قفزات صغيرة نوعية. رغم ذلك، فإن هذا المبدأ المأخوذ من المادية التاريخية، متبوع مباشرة بمبدأ آخر، حيث المفارقة لا يمكن ان تخفى حتى على ثوري متدرب: لأنه رمى بنا من أعلى عصر التنوير إلى أسفل عصر الهجرة. فجأة وجدنا أنفسنا في محيط غير منسجم، انه مكة في القرن السابع الميلادي.

لتقرأ في المبدأ التالي:

“منذ عهد الصحيفة التي وضعها النبي عند قدومه إلى المدينة المنورة حتى الإعلان عن حقوق الإنسان في العصور الحديثة، والعهود والاتفاقات والعقود تنظم قواعد الحياة المشتركة بين مواطني البلد الواحد . يمثل مضمونها وتدا ضروريا لا غنى عنه، خاصة في أوقات التغيير والمراحل الانتقالية البناء. تتضمن قواعدها المعالم المشار إليها من قبل المجتمع في مكوناته المختلفة، وأسس دولة مدافعة عن الحريات الأساسية وضامنة للسيادة. هذه القواعد غير قابلة للتغيير، مهما كانت الأغلبية الانتخابية أو السياسية أو الاجتماعية. لا شيء يمكن إهماله أو تقسيمه” [15].

ودون أي شك ممكن، ومع اتخاذ الصحيفة نقطة انطلاق تاريخي، فإن ميثاق المجلس الوطني السوري لم يحمل لنفسه بذور البؤس فحسب، بل أبان أيضا عن حشرجته الأخيرة المؤكدة.

قبل أي شيء آخر، ما هو ميثاق الصحيفة؟ انه معاهدة سلام بين المسلمين والعرب غير المسلمين ويهود المدينة المنورة. لقد وُضعت المعاهدة كتابةً، وصادق عليها جميع الأطراف، حوالي سنة 622 ميلادية، غير أن القبائل اليهودية بدأت تهتاج مع التواجد المتزايد للمسلمين الغزاة.. وكان ذلك بداية صراع عنيف ودموي بين الطائفتين.

ومن واضح الأمور، فإن الإشارة إلى الصحيفة قد ترك الولاء لـ”الجمهورية الثانية” -كما وعد المجلس الوطني- غامضا. وهناك أسئلة تتكشف هنا: من أين ستحصل هذه الجمهورية على شرعيتها، أمنَ الشعب؟ أم من القانون الإلهي؟ وهنا لا يمكن لهذا الخليط ان يكتمل، لأن كل واحد ينكر الآخر، على الأقل إذا أراد كتـّاب هذا الاتفاق تنفيذ مبادئ جدلية الطبيعة [16].

والأفضل من ذلك، إذا تلقت “الجمهورية الثانية” شرعيتها من الشعب، فإنه ينبغي أن يقود، كما يلمح إليه، إلى دولة علمانية لا تلتزم أي دين معين، سواء كانت أغلبية أم أقلية. في هذه الحالة، سيجد الإخوان المسلمون، الأوفياء لعقيدتهم الإسلامية أنفسهم خارج المجتمع والدولة، ما سيؤدي، بالطبع، إلى صراع جديد، أكثر عنفا هذه المرة، وأكثر دموية بين الإسلامويين وفرسان “الجمهورية الثانية”.

وفي المقابل، إذا تلقت “الجمهورية” شرعيتها من القانون الإلهي، على النحو المنشود من إدراجه في الصحيفة، فسوف لن يكون الحديث عن حقوق الإنسان والحريات المدنية والمساواة بين مختلف مكونات المجتمع السوري سوى ثرثرة فارغة، وحوار ببغاوات، ففي مثل هذه الحالة، فإن كل مجموعة ذات عقيدة مختلفة عن تلك المستمدة من القانون الإلهي ستفقد هذه أو تلك من الحريات والكرامات الموعود بها في حلف المجلس الوطني السوري: “الحرية والكرامة”. وبالإضافة إلى ذلك، فإن حقوق الإنسان وحقوق الأقليات (سواء منها الدينية أو العرقية أو اللغوية أو الجنسية، أو العاطفية) لن تكون قادرة على البقاء بعيدا عن قهر من الشريعة الدينية.. إن مصير الأقليات المسيحية في العراق غداة الاحتلال الأمريكي، حيث قضي عليهم على نطاق واسع وبصورة منهجية على يد الجماعات المتعصبة، وكذلك الهجمات اليومية ضد المسيحيين الأقباط في مصر، خير مثال على ما يمكن أن يكون عليه مستقبل الأقليات العرقية والدينية في سورية، عندما يتقلد المجلس الوطني السوري، الثلاثي القطب الخطابي، زمام السلطة.

وهكذا، رفع ديموقليس رأسه وتراءى له ان سيفا معلقا فوقه، ولم يكن مشدودا إلا بسَافِ فرس دنيس [17].

تتمة لمصائب المجلس الوطني السوري

في النهاية، كان لإنشاء المجلس الوطني السوري دور محدد، لكنه غير ما صرح به في البروسكينيون [18]. ليس سرا هنا أن تصريح 11- فانديميير كان يهدف إلى زيادة الضغط على النظام السوري، وتولي الحملة على سورية على مستوى أكثر تقدما. لقد كان إنشاء المجلس الوطني السوري يهدف أيضا إلى توفير واجهة سياسية محلية للتحالف المقدس، يختفي خلفها المتآمرون الحقيقيون. زد على ذلك، فإن التحالف المقدس قد أدرك، منذ البداية، أن الثورة المقدسة ستظل أجنبية عن الشعب السوري، وأنها ستؤول بالتأكيد إلى فشلها، فكانت هناك حاجة لإخراج الثورة من المأزق الذي وجدت نفسها فيه، بعد أن فشلت في أن تتجذر في المشهد السوري. ومن اجل ذلك، عمد التحالف المقدس في الواقع إلى زيادة الضغوط على سورية، وخلق نواة لحكومة مستقبلية ستحصل على اعتراف بلدان مشاركة في التحالف المقدس، كـ”ممثل شرعي ووحيد للشعب السوري”.

ومع ذلك، خلال سنة ونصف من الحملة الإمبريالية لا تزال سوريا قائمة قوية ومقاومة في ساحة المواجهة، أكثر تصميما من أي وقت مضى لتحقيق نصر حاسم، على الرغم من فظائع المتآمرين ووحشيتهم.

الدكتورة/ فداء دكروب

غلوبل ريسرتش، 4 سبتمبر 2012

ترجمة : خالدة مختار بوريجي

مركز عرين للمعلومات

هوامش

[1] ـ فانديميير: اليوم هو اليوم الأول من التقويم الجمهوري الفرنسي. وهو يناظر ببضعة أيام (اعتمادا على السنة) الفترة الممتدة من 22 سبتمبر إلى 21 أكتوبر في التقويم الغريغوري. وبالتالي، يتوافق 11 فانديميير 2 أكتوبر.

[2] ـ نبوخذ نصر كان ملك بابل بين 604 و562 قبل الميلاد، يدين بشهرته إلى حقيقة أنه حكم أكبر إمبراطورية هيمنت على بابل، بعد حصار قاس لأورشليم. أخذ المدينة، أحرق الهيكل الذي بناه سليمان وبيت الملك وغزا مملكة يهوذا. أخذ الشعب اليهودي كرقيق إلى بابل. ذكر هذا في الكتاب المقدس –الإنجيل- في كتاب الملوك الثاني.

[3] ـ غالبيوس وكانديدوس (Galbios) و (Candios)من النبلاء القسطنطينية، حجّا إلى الأراضي المقدسة. نزلا عند امرأة يهودية مسنة، تدعى “آن”، تملك لباس مريم، التي كانت قد تركه بنفسها لخادمتها في يوم الموات.

[4] ـ نينوى مدينة قديمة في آشور بشمال بلاد ما بين النهرين. كانت مفترق طرق هام للتجارة العابرة لنهر دجلة. احتلت موقعا استراتيجيا على الطريق الرئيسي بين البحر الأبيض المتوسط والهضبة الإيرانية، ما جلب لها الرخاء، بحيث أصبحت واحدة من أعظم المدن في المنطقة.

[5] ـ plèbe (باللاتينية plebs وplebis) بليبي: جزء من الشعب (populus) الروماني، أي المواطنين الرومان، من غير العبيد. هذه العامة –العوام- تتحدد كمعارضة لأشراف روما النبلاء (patriciens) أو للنبلاء في وقت لاحق، إنها ذلك الجزء من الشعب الذي يعارض نظام حكم القلة في المدينة. في اللغة الشائعة، تعني هذه الكلمة: الشعب.

[6] ـ يلمح المصطلح إلى حلقة من التاريخ الروماني في وقت مبكر، في 494 قبل الميلاد، خلال التنافس بين النبلاء العامة، كما أورد ذلك تيت ليف.. اليوم، نقول: رجل مهان، أي ذلك الرجل غير المهتم بوضع لم يعد يستطيع ان يتحكم به، أو الذي يلتف على كرامته بعد فشل ما، المنعزل عن النخبة والخاصة.

[7] “ ـ البرجوازي الطيب”، مسرحية كوميديا-بالي لموليير، من خمسة فصول، مثلت أول مرة في 14 أكتوبر 1670، في قصر شاتو دي شامبور أمام لويس الرابع عشر، من قبل فرقة موليير. كبرجوازي، اعتزم السيد جوردان الحصول على سلوك أهل الخير. قرر أن يطلب ثوبا جديدا أكثر انسجاما مع حالته الجديدة، وبدأ تعلم استخدام الأسلحة والرقص والموسيقى والفلسفة، وكلها تبدو له أساسية لرجل مثله.

[8] ـ استخدم كلاسيكي للضمير “كل” لتفادي ذكر سلسلة من الأسماء المستخدمة سابقا.

[9] ـ سيربيروس كان ابن إيكيدنا، بجثة ثعبان ووجه امرأة، وتيفون، يعتبر في بعض الأحيان وحشا يبصق اللهب، وهو يخيف الكل، بمن فيهم آلهة أولمب، الوصف الحالي لسيربيروس الموجود في الأساطير اليونانية والفن هو أنه ذو رؤوس ثلاثة، بدة ثعابين شبيهة بشعر قنديل بحر وذيل ثعبان.

[10] ـ تيار فكري امتد تقريبيا ما بين 1720/1730 إلى 1775/1785، هذا التيار الفكري يعرف غالبا بالأنوار.

[11] ـ كونشيرتو بيانو نوتة سي بيمول مينور 23، لبيتر إليتش تشايكوفسكي، تم تاليفها بين 1874 وفبراير 1875. وتمت مراجعة التقسيم خلال صيف عام 1879 ومرة أخرى في ديسمبر-كانون الأول عام 1888.

[12] ـ راديو كندا. (10 أكتوبر 2011). المجلس الوطني السوري يتلقى المزيد من الدعم. معاد 24 أوت-أغسطس 2012 على:

http://www.radio-canada.ca/nouvelles/International/2011/10/10/008-conseil-national-syrie-appuis-cnt-union-europenne.shtml

[13] ـ نص اتفاق الصحيفة التي أعلنها النبي لدى وصوله في المدينة المنورة.

[14] ـ غريش آلان. (7 أكتوبر 2011). “سورية.. المعارضة في دمشق”. نشرت في “لوموند ديبلوماتيك”. معادة 24 أوت-اغسطس 2012 في:

http://blog.mondediplo.net/2011-10-07-Syrie-l-opposition-a-Damas

[15] ـ الآنف.

[16] ـ خطط فريدريك انجلز لكتابة عمل كبير حول الجدلية في الطبيعة. كانت الفكرة الأولى ان يُبرز -في شكل نقد للمادية المبتذلة، وعلى أساس من العلم الحديث- التناقض بين الفكر الميتافيزيقي والفكر الجدلي.

[17] ـ ديموقليس هو الشخصية-المفتاح في حلقة من التاريخ اليوناني القديم، حيث يمكننا الرجوع إليه كأسطورة سيف ديموقليس. من هذه الأسطورة ولدت عبارة “سيف ديموقليس مسلط على رأسه”، تستخدم لتعني أن “خطرا دائما يمكن ان يسقط على رؤوسنا، كما سيف التاريخ، في أية لحظة كان الوضع فيها حرجا.

[18] ـ البروسكينيون هي الركح الذي كان الممثلون المسرحيون القدامى يؤدون فيه أدوارهم.

فداء دكروب

دكتوراه في الدراسات الفرنسية (UWO 2010)كاتبة وباحثة، عضو “مجموعة البحوث والدراسات حول الآداب والثقافات الفرانكوفونية” (GRELCEF) في جامعة ويسترن أونتاريو. وهي ناشطة من أجل السلام والحقوق المدنية.


Articles by: Fida Dakroub

Disclaimer: The contents of this article are of sole responsibility of the author(s). The Centre for Research on Globalization will not be responsible for any inaccurate or incorrect statement in this article. The Centre of Research on Globalization grants permission to cross-post Global Research articles on community internet sites as long the source and copyright are acknowledged together with a hyperlink to the original Global Research article. For publication of Global Research articles in print or other forms including commercial internet sites, contact: [email protected]

www.globalresearch.ca contains copyrighted material the use of which has not always been specifically authorized by the copyright owner. We are making such material available to our readers under the provisions of "fair use" in an effort to advance a better understanding of political, economic and social issues. The material on this site is distributed without profit to those who have expressed a prior interest in receiving it for research and educational purposes. If you wish to use copyrighted material for purposes other than "fair use" you must request permission from the copyright owner.

For media inquiries: [email protected]